الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/ فأجاب ـ رضي اللّه عنه وأرضاه : الحمد لله رب العالمين، الدعوة إلى اللّه هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ،/ والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه. فإن هذه الدرجات الثلاث التي هي: الإسلام، والإيمان، والإحسان، داخلة في الدين، كما قال في الحديث الصحيح: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)، بعد أن أجابه عن هذه الثلاث، فبين أنها كلها من ديننا. و(الدين): مصدر، والمصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، يقال: دان فلان فلانًا إذا عبده وأطاعه، كما يقال: دانه إذا أذله. فالعبد يدين الله، أي: يعبده ويطيعه، فإذا أضيف الدين إلى العبد فلأنه العابد المطيع، وإذا أضيف إلى الله فلأنه المعبود المطاع، كما قال تعالى: فالدعوة إلى الله تكون بدعوة العبد إلى دينه، وأصل ذلك عبادته وحده لا شريك له، كما بعث الله بذلك رسله،وأنزل به كتبه.قال تعالى: إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، وإن أولي الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي) [والإخوة لعلات: هم الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد، والمراد هنا: أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة] ، فالدين واحد وإنما تنوعت شرائعهم ومناهجهم، كما قال تعالى: فالرسل متفقون في الدين الجامع للأصول الاعتقادية والعملية، فالاعتقادية كالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر، والعملية كالأعمال العامة المذكورة في الأنعام والأعراف، وسورة بني إسرائيل، كقوله تعالى: / فهذه الأمور هي من الدين الذي اتفقت عليه الشرائع، كعامة ما في السور المكية، فإن السور المكية تضمنت الأصول التي اتفقت عليها رسل الله، إذ كان الخطاب فيها يتضمن الدعوة لمن لا يقر بأصل الرسالة، وأما السور المدنية ففيها الخطاب لمن يقر بأصل الرسالة، كأهل الكتاب الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وكالمؤمنين الذين آمنوا بكتب الله ورسله؛ ولهذا قرر فيها الشرائع التي أكمل الله بها الدين؛ كالقبلة، والحج، والصيام، والاعتكاف، والجهاد، وأحكام المناكح ونحوها، وأحكام الأموال بالعدل كالبيع، والإحسان كالصدقة، والظلم كالربا، وغير ذلك مما هو من تمام الدين. ولهذا كان الخطاب في السور المكية:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} لعموم الدعوة إلى الأصول؛ إذ لا يدعي إلى الفرع من لا يقر بالأصل ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعز بها أهل الإيمان، وكان بها أهل الكتاب ، خُوطِبَ هؤلاء وهؤلاء؛ فهؤلاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، وهؤلاء: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ، أو {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولم ينزل بمكة شيء من هذا، ولكن في السور المدنية خطاب: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، كما في سورة النساء، وسورة الحج وهما مدنيتان، وكذا في البقرة. وهذا يعَكِّر على قول الحَبْرِ ابن عباس؛لأن الحكم المذكور يشمل جنس الناس،والدعوة بالاسم الخاص لا تنافي الدعوة بالاسم العام ، / فالمؤمنون داخلون في الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وفي الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، فالدعوة إلى الله تتضمن الأمر بكل ما أمر الله به،والنهي عن كل ما نهي الله عنه،وهذا هو الأمر بكل معروف،والنهي عن كل منكر. والرسول صلى الله عليه وسلم قام بهذه الدعوة، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهي الله عنه، أمر بكل معروف، ونهي عن كل منكر. قال تعالى: ودعوته إلى الله هي بإذنه لم يشرع دينًا لم يأذن به الله، كما قال تعالى: / ومما يبين ما ذكرناه:أنه سبحانه يذكر أنه أمره بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى سبيله، كما قال تعالى: أحدهما: المقصود المراد. والثاني : الوسيلة والطريق الموصل إلى المقصود؛ فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله وتارة إلى سبيله؛ فإنه ـ سبحانه ـ هو المعبود المراد المقصود بالدعوة. والعبادة: اسم يجمع غاية الحب له، وغاية الذل له، فمن ذل لغيره مع بغضه لم يكن عابدًا، ومن أحبه من غير ذل له لم يكن عابدًا، والله ـ سبحانه ـ يستحق أن يحَب غاية المحبة، بل يكون هو المحبوب المطلق، الذي لا يحب شيء إلا له، وأن يعظم ويذل له غاية الذل، بل لا يذل لشيء إلا من أجله، ومن أشرك غيره في هذا وهذا لم يحصل له حقيقة الحب والتعظيم، فإن الشرك يوجب نقص المحبة. قال تعالى: ولهذا كان الحب درجات أعلاها: (التتيم)، وهو: التعبد، وتيم الله أي: عبد الله؛ فالقلب المتيم هو المعبد لمحبوبه، وهذا لا يستحقه إلا الله وحده. والإسلام: أن يستسلم العبد لله لا لغيره، كما ينبئ عنه قول: (لا إله إلا الله)، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو مستكبر، وكلاهما ضد الإسلام. والشرك غالب على النصاري ومن ضاهاهم من الضلال والمنتسبين إلى الأمة. وقد بسطنا الكلام على ما يتعلق بهذا الموضع في مواضع متعددة. وذلك يتعلق بتحقيق الألوهية لله وتوحيده، وامتناع الشرك، وفساد السموات والأرض بتقدير إله غيره، والفرق بين الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية، وبيان أن العباد فطروا على الإقرار به ومحبته وتعظيمه، وأن القلوب لا تصلح إلا بأن تعبد الله وحده، ولا/ كمال لها ولا صلاح ولا لذة ولا سرور ولا فرح ولا سعادة بدون ذلك، وتحقيق الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الموضع الذي في تحقيقه تحقيق مقصود الدعوة النبوية، والرسالة الإلهية، وهو لُبُّ القرآن وزبدته، وبيان التوحيد العلمي القولي، المذكور في قوله: لكن المقصود في الجواب ذكر ذلك على طريق الإجمال؛ إذ لا يتسع الجواب لتفضيل ذلك، وكل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب، من باطن وظاهر فمن الدعوة إلى الله الأمر به،وكل ما أبغضه الله ورسوله من باطن وظاهر، فمن الدعوة إلى الله النهي عنه لا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله، ويترك ما أبغضه الله، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة، كالتصديق بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته، والمعاد وتفصيل ذلك، وما أخبر به عن سائر المخلوقات: كالعرش، والكرسي، والملائكة، والأنبياء، وأممهم، وأعدائهم؛ وكإخلاص الدين لله، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وكالتوكل عليه، والرجاء لرحمته، / وخشية عذابه، والصبر لحكمه، وأمثال ذلك، وكصدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، وكالجهاد في سبيله بالقلب واليد واللسان. إذا تبين ذلك، فالدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته يدعون إلى الله، كما دعا إلى الله. وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عما ينهي عنه، وإخبارهم بما أخبر به؛ إذ الدعوة تتضمن الأمر، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر. وقد وصف أمته بذلك في غير موضع، كما وصفه بذلك فقال تعالى: فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان إجماعهم / حجة قاطعة، فأمته لا تجتمع على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله، وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره سقط عنه، وما عجز لم يطالب به. وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به؛ ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا، وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة، وبحسب غيره أخري؛ فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب؛ فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخري. وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول، والجهاد في سبيل الله، وتعليم الإيمان والقرآن. وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعي إليه، وذلك هو الأمر به؛ إذ الأمر هو طلب الفعل المأمور به، واستدعاء له ودعاء إليه، فالدعاء / إلى الله الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر. وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين، وجوب فرض الكفاية، لا وجوب فرض الأعيان، كالصلوات الخمس، بل كوجوب الجهاد. والقيام بالواجبات، من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها،كما جاء في الحديث: ينبغي لمن أمر بالمعروف،ونهي عن المنكر،أن يكون فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهي عنه،رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه،حليمًا فيما يأمر به،حليما فيما ينهي عنه،فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر، والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود،والحلم بعد الأمر ليصبر على أذي المأمور المنهي، فإنه كثيرًا ما يحصل له الأذى بذلك. ولهذا قال تعالى: وقد جمع ـ سبحانه ـ بين التقوي والصبر في مثل قوله: فالتقوي تتضمن طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر يتناول الصبر على المصائب التي منها أذى المأمور المنهي للآمر الناهي. لكن للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره، كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل، فإذا أراد المأمور المنهي ضربه، أو أخذ ماله ونحو ذلك وهو قادر على دفعه فله دفعه عنه؛ بخلاف ما إذا وقع الأذى / وتاب منه؛ فإن هذا مقام الصبر والحلم، والكمال في هذا الباب حال نبينا صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له، ولا امرأة، ولا دابة، ولا شيئًا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فقد تضمن خلقه العظيم أنه لا ينتقم لنفسه إذا نيل منه، وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، ومعلوم أن أذي الرسول من أعظم المحرمات، فإن من آذاه فقد آذي الله، وقتل سَابِّه واجب باتفاق الأمة، سواء قيل: إنه قتل لكونه ردة، أو لكونه ردة مغلظة أوجبت أن صار قتل الساب حدًا من الحدود. والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في احتماله وعفـوه عمن كان يؤذيه كثير، كما قال تعالى: ثم هنا فرق لطيف، أما الصبر فإنه مأمور به مطلقًا، فلا ينسخ، وأما العفو والصفح فإنه جعل إلى غاية، وهو: أن يأتي الله بأمره، فلما أتي بأمره بتمكين الرسول ونصره ـ صار قادرًا على الجهاد لأولئك، وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر ـ صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزًا عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك،كما كان مأمورًا بالصبر أولا. والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه؛ ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، بأن لهم الجنة، حتى إن الكفار إذا أسلموا أو عاهدوا لم يضمنوا ما أتلفوه للمسلمين من الدماء والأموال، بل لو أسلموا وبأيديهم ما غنموه من أموال المسلمين، كان ملكا لهم عند جمهور العلماء: كمالك وأبي حنيفة وأحمد، وهو الذي مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين. /فالآمر الناهي إذا نيل منه وأوذي، ثم إن ذلك المأمور المنهي تاب وقَبِلَ الحق منه: فلا ينبغي له أن يقتص منه، ويعاقبه على أذاه،فإنه قد سقط عنه بالتوبة حق الله كما يسقط عن الكافر إذا أسلم حقوق الله ـ تعإلى ـ كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام يهدم ما كان قبله،والتوبة تهدم ما كان قبلها) ، والكافر إذا أسلم هدم الإسلام ما كان قبله،دخل في ذلك ما اعتدي به على المسلمين في نفوسهم وأموالهم؛لأنه ما كان يعتقد ذلك حراما، بل كان يستحله، فلما تاب من ذلك غفر له هذا الاستحلال،وغفرت له توابعه. فالمأمور المنهي إن كان مستحلاً لأذي الآمر الناهي كأهل البدع والأهواء، الذين يعتقدون أنهم على حق، وأن الآمر الناهي لهم معتد عليهم، فإذا تابوا لم يعاقبوا بما اعتدوا به على الآمر الناهي من أهل السنة، كالرافضي الذي يعتقد كفر الصحابة أو فسقهم وسبهم على ذلك، فإن تاب من هذا الاعتقاد، وصار يحبهم ويتولاهم لم يبق لهم عليه حق، بل دخل حقهم في حق الله ثبوتًا وسقوطًا؛ لأنه تابع لاعتقاده. ولهذا كان جمهور العلماء ـ كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أصح الروايتين، والشافعي في أحد القولين ـ على أن أهل البغي المتأولين لا يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل بالتأويل، كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه على أهل البغي بالتأويل باتفاق العلماء. / وكذلك أصح قولي العلماء في المرتدين، فإن المرتد والباغي المتأول والمبتدع كل هؤلاء يعتقد أحدهم أنه على حق، فيفعل ما يفعله متأولا، فإذا تاب من ذلك كان كتوبة الكافر من كفره؛ فيغفر له ما سلف مما فعله متأولا، وهذا بخلاف من يعتقد أن ما يفعله بغي وعدوان كالمسلم إذا ظلم المسلم، والذمي إذا ظلم المسلم، والمرتد الذي أتلف مال غيره، وليس بمحارب بل هو في الظاهر مسلم أو معاهد، فإن هؤلاء يضمنون ما أتلفوه بالاتفاق. فالمأمور المنهي إن كان يعتقد أن أذي الآمر الناهي جائز له، فهو من المتأولين وحق الآمر الناهي داخل في حق الله ـ تعإلى ـ فإذا تاب سقط الحقان، وإن لم يتب كان مطلوبا بحق الله المتضمن حق الآدمي، فإما أن يكون كافرًا، وإما أن يكون فاسقًا، وإما أن يكون عاصيا، فهؤلاء كل يستحق العقوبة الشرعية بحسبه، وإن كان مجتهدًا مخطئًا فهذا قد عفي الله عنه خطأه، فإذا كان قد حصل بسبب اجتهاده الخطأ أذي للآمر الناهي بغير حق فهو كالحاكم إذا اجتهد فأخطأ، وكان في ذلك ما هو أذي للمسلم، أو كالشاهد، أو كالمفتي. فإذا كان الخطأ لم يتبين لذلك المجتهد المخطئ، كان هذا مما ابتلي الله به هذا الآمر الناهي.قال تعالى: وإذا قدر عليهم أهل العدل لم يتبعوا مدبرهم، ولم يجهزوا على جريحهم، ولم يسبوا حريمهم، ولم يغنموا أموالهم، فلا يقاتلونهم على ما أتلفوه من النفوس والأموال إذا أتلفوا مثل ذلك، أو تملكوا عليهم. فتبين أن القصاص ساقط في هذا الموضع؛ لأن هذا من باب الجهاد الذي يجب فيه الأجر على الله، وهذا مما يتعلق بحق العبد الآمر الناهي. وأما قول السائل: هل يقتص منه لئلا يؤدي إلى طمع منه في/ جانب الحق؟ فيقال: متي كان فيما فعله إفساد لجانب الحق كان الحق في ذلك لله ورسوله، فيفعل فيه ما يفعل في نظيره، وإن لم يكن فيه أذي للآمر الناهي. والمصلحة في ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال، وتارة تكون المصلحة المهادنة، وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة، وهذا يشبه ذلك، لكن الإنسان تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه يجريه عليه، وليس كذلك، بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (ثلاث إن كنت حالفاً عليهن: ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما نقصت صدقة من مال، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه، ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان. قال تعالى:
|